اخبارمقالات

التزام البنوك بالتمويل الأخضر

بقلم: المستشار د. عبد القادر ورسمه غالب

بدعوة كريمة شاركت بورقة عمل في المؤتمر المقام بالبحرين بتنظيم مجلس السيد  سلمان بن خالد السبيعي، عن “مستقبل الطاقة في آفاق التنمية المستدامة” وتناولنا موضوع “التمويل الأخضر” من عدة جوانب من ضمنها كيفية مساهمة البنوك والمؤسسات المالية في جعل العالم أخضرا والمحافظة علي البيئة السليمة الخضراء لينعم سكان الكرة الأرضية بالصحة والعيش في مناخ نظيف وجميل وأخضر.

وكما نعلم، ومنذ بداية الأعمال المصرفية ظلت العلاقة بين البنوك والزبائن قائمة علي التعامل المادي الذي يحقق للطرفين أقصي درجات الفائدة المادية البحتة. وكانت البنوك تتباري في تمويل المشاريع الكبيرة وفتح الخزائن لها دون مراعاة لأية آثار جانبية أو سلبية قد تضر بالبيئة والانسان والمخلوقات والأرض التي نعيش عليها، إذ كان مفهوم الحفاظ علي البيئة غائبا تماما والكل مهتم فقط بتقديم المال واستلام المال.

ومنذ فترة تكالبت الضغوط من الإنسان على البيئة مما أدي لتغيير المناخ، وتقليص الغطاء النباتي بسبب التصحر، وحدوث ثقب الأوزون، وقلة المياه، وارتفاع درجات الحرارة، وانتشار الأمراض والأوبئة، غير ذلك من المتغيرات الكبيرة علي وجه الأرض التي نعيش علي سطحها. وكل هذا أتي بسبب عدم المحافظة علي البيئة بل وتجاهل كل النداءات الخاصة بذلك. ومثل هذا الوضع الخطير والحرج يتطلب اتخاذ خطوات جادة من كل القطاعات ومن كل فئات المجتمع. والقطاع المصرفي منذ فترة، وبعد عدة نداءات من منظمات المجتمع المدني والرسمي، تنبه لدوره وبدأ في اتخاذ خطوات جادة لحماية البيئة وذلك عبر عدة وسائل من ضمنها سياسة “التمويل الأخضر” الذي تنتهجه الآن الكثير من البنوك والمؤسسات المالية من أجل الحفاظ علي البيئة وعلى الأرض ومن فيها من مخلوقات وطبيعة خلابة.

وفي هذا الخصوص، نشير إلي أن غرفة التجارة الدولية بباريس عبر لجنتها المصرفية قامت بدراسة كيفية المساعدة الفعالة في الحفاظ علي البيئة. ولقد صدرت عدة موجهات هامة يجب علي البنوك انتهاجها وتوفيق أوضاعها لتحقق تقديم المساعدة لأنفسنا وللبشرية جمعاء من أجل العيش في عالم نظيف خالي من الأمراض والملوثات والغازات السامة ومداخن المصانع والأتربة والسموم وتقلبات الجو وغيره. وتقوم البنوك الآن بعدة خطوات لتحقيق “التمويل الأخضر” ومنها مثلا اشتراط تقديم شهادة معتمدة من الجهات المختصة بالبيئة توضح أن المشروع المطلوب تمويله غير ضار بالبيئة ولا يشكل تهديدا مباشرا أو غير مباشر في هذا الخصوص، وهكذا يتم منح الأولوية للمشاريع التي تحافظ  علي البيئة وبالعكس لا يتم التمويل مهما كانت فوائده للبنك. وفي بعض الحالات، يطلب من صاحب المشروع تأكيد تنفيذ كل المتطلبات البيئية حتى يتم تقديم التمويل وهذا يحدث في أمثلة عديدة منها توضيح كيفية السيطرة علي الغازات والأدخنة الصادرة من المصانع أو كيفية التخلص من المياه المستخدمة في الصناعة و عدم تركها للتسرب خارج المصنع مما يسبب الكثير من الأضرار الصحية، كيفية المحافظة علي صحة العمال وعدم تعريضهم للحوادث والأمراض البيئية من استنشاق للسموم و لأتربة والزئبق وبقايا المواد المستخدمة في الصناعة وتقديم الملابس الوقائية لهم وتدريبهم مهنيا لحسن وسلامة تنفيذ أعمالهم.. بل ربما يطلب تقديم شهادة توضع عدد الساعات التي عمل فيها المصنع من دون أي حوادث.. وكل هذا لتأكيد أن فلوس البنك ستقدم لما هو ملائم للحفاظ علي البيئة وكذلك على كل من يعيش علي سطح الأرض من إنسان أو حيوان ومياه وهواء وطقس وغيره، ومن هذا يكون التمويل أخضرا مخضرا.

وهناك أيضا، متطلبات أخري لتمويل تشييد المباني العالية، الكبيرة خاصة، بنوعية المواد الخام المستخدمة وكيفية السيطرة علي الحرارة أو البرودة وتقليل استخدام الكهرباء والطاقة الصناعية، وكذلك هناك متطلبات خاصة لتمويل المشاريع الزراعية والحيوانية والسمكية ونوع الأسمدة والتربة المستخدمة لزيادة الإنتاج ونوع الكيماويات والمبيدات المطلوبة لحماية المحاصيل المزروعة ولمحاربة كل الآفات مثل الجراد والحشرات المهلكة للنبات والحشائش الضارة. وفوق كل هذا، كيفية التنسيق وتحقيق الموائمة بين الإنتاج في هذه المشاريع والموارد الطبيعية التي حبانا بها المولى جل جلاله.

البنوك والمؤسسات المالية تبذل الآن جهودا حثيثة في الحفاظ على البيئة عبر انتهاج سياسة التمويل الأخضر، وهذا ربما لا يكون معلوما لعامة الناس بما فيه الكفاية، ولكن هناك خطوات مصرفية جادة لحماية الكون وما فيه. وربما تفقد البنوك بعض المشروعات والعوائد الكبيرة منها، ولكن الوقفة القوية في هذا الموضوع ضرورية بل وتعتبر من أولويات واجبات المساهمة الاجتماعية التي تقدمها البنوك للمجتمعات التي هي جزء منها. وهذا يظهر جليا، وبصفة خاصة في المشروعات الضخمة الخاصة مثلا بإنتاج البترول أو الغاز أو مشاريع الطاقة الكبري لتوليد الكهرباء أو بناء السدود أو لاستخدام الطاقة النووية أو إزالة الغابات والغطاء النباتي لإقامة مشروعات كبيرة أو تشييد مدن حديثة أو مرافق خدمية كبناء خطوط السكك الحديدة أو الموانئ أو المطارات الضخمة … هذه المشروعات تتطلب المليارات وعوائدها وفوائدها للبنوك غير محصورة بل يسيل لها اللعاب، ولكن البنوك ظلت تراعي تقديم التمويل المالي بعد استيفاء المتطلبات الخاصة بحماية البيئة والطبيعة والمحافظة عليهما كواجب قومي وطني انساني. ولقد تم وضع معايير دولية يجب مراعاتها والتقيد بها عند التمويل، وبالعدم تتعرض البنوك للمسائلة من عدة جهات دولية وإقليمية وهذا قد يقود إلي فرض عقوبات وجزاءات متعددة علي البنوك غير الملتزمة، بل وبعض المضايقات، كما حدث لمدير سيتي بنك عند تمويله لمشاريع ضارة بالبيئة في الأكوادور حيث تم تسميته “عدو البيئة” اللدود، وكذلك تم تقديم انتقادات حادة للإدارة العليا للبنوك التي قامت بتمويل خط أنابيب بحر قزوين عبر عدة دول من دون الالتفات للمضار المحتملة من تنفيذه.

وللعلم هناك مشروعات ضخمة تم وقف تمويلها بعد أن اتضح عدم التقيد بالحفاظ علي البيئة وبما يسبب أضرارا لها، والأمثلة كثيرة نشير منها لموقف البنك الدولي الحازم ضد تشاد حيث تم إيقاف تمويل خط أنابيب البترول بمليارات الدولارات لينقل البترول من داخل تشاد ليصل عبر عدة دول للمحيط  الأطلنطي للتصدير. و كانت هناك شروطا خاصة لتقديم التمويل تتعلق بالبيئة والحفاظ علي الطبيعة وخدمة المجتمع والساكنين في المناطق التي يمر عبرها خط الأنابيب، ولكن، وبالرغم من المتابعات العديدة فشلت تشاد في الإيفاء بهذه الشروط  وعليه تم اتخاذ القرار الحازم بالوقف الفوري للتمويل. ولقد وجد هذا القرار ترحيبا حارا من كل العالم عدا تشاد ومعها الفئة المستفيدة من المشروع. ولضمان الحصول علي الأموال الكافية وفق متطلبات التمويل الأخضر، تقوم الآن الدول المنتجة للبترول باستخدام الآلات والمعينات الصديقة للبيئة ولليد العاملة التي تعمل في ظروف صعبة تحت سطوح الأرض والبحار لاستخراج البترول وتوابعه. وكذلك يتم الآن إعادة تصميم مصافي البترول لتنتج بترولا أخضرا صديقا للبيئة وبغرض تقليل انبعاث الغازات الضارة منه. وهذا الوضع ينطبق أيضا علي كل المشاريع الصناعية والزراعية والخدمية الكبيرة، ونشير إلي أن البنوك تحرص علي تقديم عناية خاصة لضمان الحفاظ علي البيئة عبر “التمويل الأخضر” الذي يقوم علي فلسفة تقديم التمويل ولكن فقط وفق الشروط والمتطلبات التي تضمن سلامة البيئة لجميع من في الأرض. وخالقنا العظيم جل جلاله يوجهنا “.. ولا تفسدوا في الأرض …”.

وفي هذا الخصوص، لقد تم استحداث ضوابط تسمي “مبادئ الأكويتر” للتمويل الأخضر والتي بدأت تتبعها البنوك الكبيرة في نواحي كثيرة في شتى بقاع الأرض. و أيضا تقوم البنوك بتنفيذ التوجيهات الصادرة من منظمة البيئة التابعة للأمم المتحدة و التي تعرف ب “مبادرة الاستثمار المسؤول” وهذه التوجهات تعتبر مرشدا في كيفية تفعيل الاستثمارات المالية وصرفها بطريقة تهدف للحفاظ علي البيئة العالمية التي نستنشقها مع كل زفرة. وكذلك موجهات التنمية المستدامة التي أصدرتها الأمم المتحدة ومن أهمها الحفاط على البيئة. وفي هذا نشير، إلي أن العديد من البنوك قامت بتخصيص “صناديق خضراء” مخصصة للتمويل الأخضر وهولندا رائدة في هذا المجال حيث الالتزام التام بالتمويل الأخضر وفق ضوابط  سهلة ومغرية للجميع، ويبدو أن العدوى تنتقل سريعا لبقية البنوك والدول وفي هذا فليتنافس المتنافسون.

ولا بد من أن نشير إلي أن الأبحاث الأخيرة أفادت بأن توجه البنوك نحو تنفيذ هذه التوجهات عبر التمويل الأخضر، ساعد كثيرا في إعادة هيكلة غالبية المشروعات خاصة الكبيرة لتتلاءم مع البيئة وبما يحافظ عليها، وقطعا مع مرور الزمن سيعود هذا بفوائد كثيرة لأن الاستثمار سيتم في جو يتعايش في أمان مع بيئتنا الخضراء. و لقد عبرت البنوك عن موقفها الايجابي وستشعر الأجيال القادمة بهذا لأن البنوك تعمل بهمة للمستقبل الأخضر الأجمل.

في إطار مسؤوليته الاجتماعية ودعمه لأهداف التنمية المستدامة، فان بنك البحرين والكويت يقدم قرضا ميسرا لدعم الطاقة البديلة. وأعلن هذا البنك الرائد في البحرين، عن توفيره قرض جديد بشروط ميسرة لتمكين العملاء من شراء ألواح الطاقة الشمسية وتزويد مختلف المنازل والمنشآت بالطاقة المتجددة. ويأتي هذا في إطار نهوض بنك البحرين والكويت بمسؤولياته الاجتماعية تجاه المجتمع والبيئة في البحرين، ودعما للجهود الوطنية الرامية للحفاظ على البيئة بما في ذلك زيادة استخدام مصادر الطاقة المتجددة في مختلف المجالات. اضافة الي التزام البنك بأهداف التنمية المستدامة وخاصة الهدف السابع الذي ينص على “طاقة متجددة بأسعار معقولة” والهدف الثالث عشر “العمل المناخي”. ويقدم بنك البحرين والكويت من خلال هذا القرض الجديد امتيازات نوعية من بينها موافقة سريعة على منح القرض، وإعفاء من الرسوم البنكية، وسعر فائدة تنافسي، ومرونة في السداد، مع فترة سداد تصل لسبع سنوات. ويمكن لجميع المؤسسات والأفراد الحصول على القرض لدعم الجهود المبذولة في مجال الطاقة المستدامة من خلال أفضل الممارسات مع الحفاظ على أعلى المعايير. والإعلان عن “قرض  ألواح الطاقة الشمسية”  لدعم الطاقة البديلة يأتي ضمن إطار عمل الاستدامة الخاص بالبنك، والذي تشكل مسألة الحفاظ على البيئة إلى جانب المسؤولية الاجتماعية والحوكمة إحدى ركائزه الأساسية، وبما يسهم في تحقيق التوازن بين متطلبات التنمية العمرانية والحضرية من جهة وحماية البيئة الطبيعية من جهة أخرى، وضمان الحفاظ عليها وتطويرها للأجيال القادمة. وحرص البنك على المساعدة في التوجه نحو مصادر الطاقة البديلة يسهم مباشرة في ترشيد الاستهلاك ورفع كفاءة الطاقة وتبني مفاهيم الاقتصاد الأخضر مع وضع وتطوير قواعد وأطر التمويل الأخضر في البحرين لفائدة كل المجتمع والبيئة والبنك.

 

إغلاق